وِحدةُ الحكمة
في منتصف شهر كانون الثاني ، من
عام ألف و تسعمائة و تسعة و تسعون ميلادية . بعد زوال قرص الشمس بساعات ، خفَّت ضَرَبات
الأقدام على الأرض إنتظاماً مع العد المتكرر " حِد ، إثنين ، ثلاثة ، هوب .. حِد
، إثنين ، ثلاثة ، هوب .... " ، إلى أن تلاشت بعيداً حيث سكتت و تفرق أصحابها
إلى حيث النوم .
|
الصورة من تصوير الكاتب
سرعان ما صَعُب على صراصير الليل أن تترك المكان ينعم بهدوئه ، فقد بدأت تعزف مقطوعاتها الموسيقية التي ينادي الذكر بها أنثاه ، و ينغص بها كل هدوءٍ وُجد فيه ، و يؤرق كل خيالٍ طلب السكون ، و لم يشاركها في هدم ذلك الهدوء إلا أصوات غاضبة تهمس لبعضها البعض ، هذا يحكي لهذا كيف وصل هنا ، و آخر يسأل آخر لو يعطيه غطاء ليلتحف به ليقيه قسوة البرد و لم يجد ، و هذا يلعن مَن وضعه هنا أو أرسل له ذلك الخِطاب اللعين ، و أصوات الحقائب التي أعلنت أنها ستتقيأ ما فيها الآن ، ورائحة أقدام تعفنت في لحدها ، الذي عَصرت نفسها فيه طيلة يوم طويل و كئيب .
أصوات منخفضه تتشابك مع أزيز ريح مُثَلجة
تأتي من كل جانب و من كل شَق أو فتح أو من تحت باب ، لتعرض حالة من الفوضى الهادئة
لأناس إحترموا قُدسية المكان الذي وُضعوا فيه قسراً . مسجدٌ جُمع فيه ما يقرب من
عشرين رجل ، تتراوح أعمارهم بين الخمسة و ثلاثين و الخمسة و أربعين عاماً ، منهم
الطبيب و المهندس و المحامي و المحاسب ، و بين هذه الفوضى ، كان أحدهم مستلقياً على
ظهره ، قابع في زاوية من زوايا المسجد الذي لم يزُره من قبل ، و لا يعرف إسمه أو
أي شئ عنه سوى أنه مسجد داخل وحدة عسكرية تقع بالقرب من الحدود الغربية لبلده التي
نشأ فيها و التي أقسم أن يُلبي لها النداء متى نادت ، . في هذه الزاوية ترك لِكَفَّيه
مسئولية حِمل رأسه التي كادت تنفجر كمداً ، أو تسقط من ثقل ما فيها من ألم لِما
كان في هذا اليوم .
وَضعَ كفيه خلف رأسه متخذاً من
حقيبته وسادة ، و التي تحوي ملابس تكفي لأسبوعين من الإقامة ، التي كان يظنها
ستكون إقامة خمس نجوم ! ناظراً إلى سقف
المسجد ، فتح عينيه و نسيَ أن يغلقهما ، سلَّم فِكرَهُ لمحاولة إقناع نفسه أنه الآن
في فترة إستدعاء لخدمة الوطن لمدة خمسة عشر يوماً ، و أن هذه الأيام ستمر ، سواء
كان ينام على فراش في فندق خمس نجوم ! أو كان يفترش حصير المسجد . ستمر الأيام !!
ما أسرع الأيام الحلوة حين تمر ، و
ما أثقلها الأيام حين تكن مره . ينظر في ساعة يده كل فترة ، ظناً منه أن الليلة
إنتهت ، و أن الصبح سيضئ من باب المسجد و نوافذه ليعلن وفاة أول يوم في هذا المكان
و مولد يوم جديد . إلا أن الحسرة تعصر قلبه عصراً ، حين
يجد الساعة لم يمر منها إلا دقائق قليلة بعد النظرة السابقة لها ، فيرجو عندها الليل
أن يزول و يتوسل للصبح أن يزور .
نام كل من في المسجد ، مُلتفين
بالحصير على الأرض مثل سندوتشات الشاورمة الملفوفة في الخبز السوري إلا أنها
سندوتشات مجمدة ! كلهم ناموا إلا هو ، شدَّ عليه البرد قسوته و لم يجد ما يدافع به
عن دمه أن يتجمد سوى ما حمله في حقيبته من ملابس ، إرتدى كل ما فيها ، و ألقى
بنفسه سريعاً في بركان أفكاره الثائر مجددا محاولاً أن يجد لنفسه تفسيراً عن ما
حدث " لماذا ينام في المسجد ؟ " ، ظل ناظراً لسقف المسجد ، يسأل نفسه
" لماذا أنا هنا ؟ " ، و يبحث عن إجابة لسؤاله و لم يجد . يضئ ساعة يده
لينظر فيها كأنه يرجوها أن تجري ، يتأفف و هو يقول قد مر من الوقت رُبع ساعة !
إلا أنه قد وجد لنفسه ونيس في
ليلته ، بين حين و حين يسمع حفيف الشجر خارج المسجد ، يتسلل إلى أذنه من النافذة
التي ينام تحتها ، و كأن الشجر يقول له " أنا معك سهران و لم أنم " ،
يحاول أن يُترجم حديث الشجر، لكنه لا يفهم للأشجار حديث أو لغة ، هل هذه تسابيح
الشجر ؟ هل هذه مغازلة ليلية بين الشجر ، كتلك التي تصدرها صراصير الليل ؟ يحاول
أن يُسلّي نفسه بأسئلة يلقيها على نفسه مجتهداً في الإجابة عنها ليقتل الوقت و
لتمر الليلة .
الدقائق تمر كسلحفاة تسير على طريق
مفروش بالصمغ ، و هو مندمج في لعبته الجديدة بين سؤال يبحث عن إجابتة و بين النظر
في ساعة يده ، يسمع خطى منتظمة تقترب من الباب ، خطى هادئة ، كمن يتجسس على قوم من
بعيد ، و كلما إقتربت الخطى من الباب ، تخلى هو عن النظر للسقف ، و ترك ترجمته لحديث
الأشجار و أرسل نظره لباب المسجد عن يمينه ليرى قدمين واثقتين ثابتتين أمام الباب تقف
لثوانٍ معدودة و تنصرف .
لم يستغرق من الوقت الكثير ليقنع
نفسه أن هذا هو فرد الحراسة الجوّال داخل الوحدة ليطمئن أن كل الأمور هادئة و
مستقرة . و قبل أن يعاود النظر إلى السقف الذي إفتقده لدقائق ، قفزت منه علامة
تَعَجُب بعدما أطال النظر إلى تلك الفتحة أسفل الباب ، فتحة قد يعبر منها إنسان
على بطنه زحفاً أو كلبٌ يجري مفزوعاً و هو يرى ذلك الباب المصنوع من السلك لمنع
الناموس من المرور ليلاً !!
تباً لهذا الباب الذي يخشى ملامسة
الأرض ، كخشية ذكرٍ يخشى أن يُلامس أنثى لا تَحِل له !!
إشتاقت يداه لحمل رأسه من جديد ،
كما إشتاقت عيناه للنظر إلى السقف ، و عاد كل مشتاق لما إشتاق له ، و عاد هو ليسأل
نفسه " لماذا أنا هنا ؟ " . هذه المرة إسترجع قاعدة تحليلية كان يسير
عليها في تحليل الأمور الحياتيه كلما غاب عنه فهم الحكمة من حدوث شئ لا يعلم لماذا
حدث ، " لكل شئ سبب " .
حدَّث نفسه قائلاً " لكل شئ
سبب ، و من المؤكد أن هناك سبب لوجودي هنا ، سبب لأنام داخل مسجد على حصير و أنا
في عمري هذا و في هذا المنصب ... لابد من سبب !! " . إلا أن صوتاً قاطع تسلسل أفكاره و لم يميز منه
ما قال و لم يعرف مصدر الصوت غير أنه قطع تفكيره للحظات و حاول الإنصات لعل الصوت
يتكرر ، ثواني مرت و سمع من يقول " غَطي البت يامّا .. " و تبع الصوت
صوت " شَخير " عنيف ، علم منه أن المتحدث نائم ، ربما يحلم بابنته
الصغيرة " آخر العنقود " و هو يوصي أُمَه أن تغطيها ، هل هو أرمل ؟ هل
هو مطلق ؟ لا يهم الآن هذه الأسئلة و هذا التحليل ، ففي كل حصيرة الآن تلتف حكاية .
لكل شئ سبب .
نظر في ساعة يده . نظر إلى السقف .
و أخيراً قرر أن يُغلق عينيه طوعاً محاولاً أن يبحث عن سبب لوجوده هنا أو الحكمة
من وجوده هنا . كان بإمكانه هو و من معه أن يستمع إلى كلام قائد الوحدة صباحاً
عندما قال أن المعسكر مُعَد لإقامة الضباط الإحتياط في الخيام ، عندها إعترضوا على
النوم في الخيام في فترة الإستدعاء و تسارعت الأحداث و النقاشات و المجادلات ليرى
نفسه و من معه مدفوعون إلى المسجد ليكون المسجد هو المصير الأخير و الوحيد للنوم
فيه حتى إنتهاء فترة الإستدعاء الخمسة عشر يوماً . لم يشأ فتح عينيه إلا بإحدى
الحسنيين ، إما أن يجد الإجابة عن سؤاله و فهم الحكمة من نومه هكذا ، و إما أن يظل
نائم حتى تنتهي المدة و هو المستحيل .
" حسبي الله و نعم الوكيل
" ظن أن أحد يتحدث بجواره و يقولها ، فتح عينيه بسرعه و تلفت يمينا و يسارا
ليرى من المتحدث ، الكل نائم في لفته ، و لم يجد أحد بجواره ، ربما غلبني النوم
لحظه ! قالها لنفسه و هو ينظر في ساعة يده و لم يمر من الوقت ما يشير أنه نام ! شعر
بالبرد ، قام ليبحث عن حصيره ، ليس ليلف نفسه بها إنما ليسد بها تلك الفتحة
الموجودة أسفل الباب و قد فعل ، ثم عاد إلى سابق فعله .
" حسبي الله و نعم الوكيل
" ، سمعها مجددا بصوت أعلى مما سبق ، لكن هذه المره بصوت يعرفه ، و يتذكره و
لم يغب عن أذنه منذ ما يقرب من عشر سنوات ، إستمر في غلق عينيه هذه المره و لم
يفتحها و لم يبحث عن مصدر الصوت ، ذهب بذاكرته إلى عشر سنوات مضت ، كان وقتها يشغل
منصب رئيس قسم التركيبات في شركة لإنشاء المصانع ، تذكر منها يوماً قد طلب منه
رئيسه المباشر أن يوفر سكن للعمال الذين يعملون باليومية لمدة خمسة عشر يوماً حتى
ينتهي العمل بالموقع ، و ما كان منه وقتها إلا أنه أمر بفتح مسجد الموقع لهم ليلاً
ليكون مكان نومهم فيه حتى تنتهي الأعمال و عند باب مكتبه وجد رجلاً أربعينياً يجلس
أمامه ، ما إن رآه حتى قال له كيف يكون النوم في المسجد في هذا الشتاء و البرد
قارس ؟ إحتد عندها النقاش و إشتعل ، و ما كان منه إلا أن دخل مكتبه ، و ما كان من الأول
غير أنه قال " حسبي الله و نعم الوكيل " .
هنا فتح عينيه ناظراً الى السقف
مبتسماً و هو يقول " وصلت الرسالة " .
تتقدم الخطى الهادئة ناحية باب
المسجد ، نظر إلى اليمين ليرى فرد الحراسة و ينتظره لينصرف ، إلّا أن هذه المره فُتح
باب المسجد ليدخل مؤذن المسجد ، الله أكبر .. الله أكبر .. عندها قام النيام ..
دخل الضباط و الجنود .. صلوا الفجر .. بدأ يوم جديد ، بفجرٍ جديد و فكرٍ جديد ، و
إنتهت مدة الإستدعاء و عاد هو إلى شركته ، ينظر إلى نتيجة الحائط المعلقة خلفه أعلى
كرسي مكتبه ، قرأ الحكمة المكتوبة أسفل ورقة النتيجة ثم قال و هو يبتسم "
صدقت " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المؤلف : عادل أنسي محمد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المؤلف : عادل أنسي محمد