الخميس في تمام الثامنة مساء ، إجتمع الأصدقاء على قهوة
" أيامنا الحلوة " بشارع " الترام " في محرم بك بالأسكندرية ،
كان برد الليل قارس :
.. تقعدوا جوه ولا بره يا بهوات ؟ سؤال من " زاهي
" ، نادل القهوة .
.. لأ ، بره يا " زاهي " .
قالتها خمسة أفواه في نفس واحد ، و كأن حرارة مرح الشباب
و سخونة حكاياته الغرامية في الجامعة إستحت أن ترضى لهم بالداخل مكان .
خمسة من طلبة كلية الطب جامعة الأسكندرية تجمعهم صداقة
الطفولة حتى وصلوا الى الجامعه معاً . " باسم " لا يتقن و لا يتفنن في
شئ في حياته إلا اللعب بالنرد " الزهر " في " الطاولة " أو في
لعبة " زوج ولّا فرد " يصفونه أصدقاؤه أنه " مدمن الزهر " .
" سمير " هو الذراع الأيمن ل " باسم
" و أقرب الأربعة لقلبة و كاتم أسرارة الخاصة .
" محمد " و " عبد المسيح " شابان
قارئان متدينان يحبان المرح و يحبان باقي " الشلة " و الجلوس معهم .
أما " أحمد " ، منافس ل " باسم " في
كل شئ ، حتى الحب .
أطلق " باسم " كلمة البداية لتبدأ بها السهرة
و هو يسحب كرسي ليجلس :
.. السهرة صباحي النهارده ، و هايكون الحساب كله على
" أحمد " النهارده . قالها مبتسماً و اثقاً من قوله .
.. لا ياعم ، أنا ماباكولش من رهان الرهان حرام . قالها
" محمد " و أيده فيها " عبد المسيح " بنفس الجمله .
.. اتفضل بقى ، ربنا رزقنا ، بشيخ و قسيس في الشلة .
قالها " سمير " ضاحكاً .
ضحك الخمسه لجملة " سمير " . إلا أن "
أحمد " رفض مرور جملة الدعوة للهزيمة بلا تعقيب :
.. بلاش غرور ، بدل ما اشيلك المشاريب كلها و سندوتشات
كبده معاهم .
.. طيب بلاش لماضه و قول " جوز ولا فرد " ؟
سألها " باسم " و هو قابضاً بكف يده اليمنى على حجر النرد " الزهر
" مداعباً الزهر بين أصابعه بهدوء شديد ناظراً في عيني " أحمد "
مترقبأ إختياره .
.. جوز !
خرجت من فم " أحمد " و كأنها تخشى برد الشتاء
يعييها . تبسم " باسم " و هو يلقي الزهر و هو يتمتم بكلمة واحدة "
فرد " و تابعت أعين الخمسة رقصات الزهر على خشبة اللعب و تدلت شفاة "
أحمد " و هو ينتظر قرار الزهر لمن يؤيد . فقرر الزهر أن ينتصر لتمتمة "
باسم " ، فصاح " باسم " :
.. جهار يك .. جهار يك .. أربعة و واحد يعني خمسة ، جوز
دول ولا فرد يابني .
تعالت ضحكة " باسم " و تابع ضحكته :
.. إكتب عندك خمس نقط ، بنص جنية و الحسابة بتحسب .
ثم كرر سؤاله :
.. جوز ولا فرد ؟
جبين أحمد بدأ يعلن عن قدوم موسم الصيف مبكراً ، قطرات
عرق بدأت تتواصل ، يمسحها بكف يده اليمنى و يقول :
.. فرد .
.. نزل طقم شاي هنا يا " زاهي " ، مين هايشيش ياشباب .
قالها " سمير " ، و هو يكمل قائلاً :
.. ياخوانا الواد ده مخاوي ، تحسوا كأنه بيوشوش الزهر يقوله
يكون جوز ولا فرد ، شوفوا هايعمل ايه دلوقتي .
تمتم " باسم " للزهر قائلا ، جوز ، ثم ألقى
الزهر فكانت ثمانية ، ضحك بصوت مرتفع ، قال " محمد " :
حظك عالي جدا .
.. في الزهر بس !! قالها " أحمد " .
.. عبد المسيح ، ينظر و يقول : " مخاوي ، مالوش حل
" .
.. ثانية واحده و اجيلكم . قالها " باسم "
واقفاً كمن لدغه عقرب ، و انصرف سريعا عابراً الطريق .
.. رايح فين ؟ " محمد " يسأل بإستغراب .
" سمير " يرد نيابة عن " باسم " :
.. ثواني و يجي يا شباب ، نحكي شوية لحد ما يجي .
.. رايحه فين ؟ " باسم " يسأل السؤال و هو
يسير مسرعا خلف " دنيا " ، صديقته في الكلية و تسكن بجوار " باسم
" ، لكنها تكبره بثلاثة سنوات دراسية .
.. رايحه درس عند " ميرفت " .
.. درس ايه ؟ ماقولتيش يعني انك بتاخدي درس قبل كده .
.. أيوه ده درس لسه أول مره أروحه النهارده .
.. درس ايه اللي في آخر أسبوعين في الترم ؟!! إزاي يعني
؟!!
.. مش درس درس يعني ، دي مراجعه هايعملهالنا الدكتور
" حازم " أنا و " ميرفت
" .
.. دكتور " حازم " !! حازم مين ؟؟!
.. " حازم السرجاني "
.. " حازم السرجاني " ؟؟!!! ، اللي عاوز يتقدم
لك ؟؟!!
.. باسم لو سمحت ، ما تخلطش الأمور في بعضها ، أنا كده
هاتأخر !
.. خلاص هاستناكي لما ترجعي .
.. أخويا هايبقى معايا ، نتكلم بكره طيب .
توقف " باسم " و توقفت " دنيا " لكن
تكلمت عنهم نظراتهم . عاد " باسم لأصدقائه ، لكنه ليس " باسم "
السابق ، عاد يستأذن في الإنصراف ، فقال له " أحمد " مازحاً :
.. هاتخلع لما حسيت اني هاكسبك .
تبسم له " باسم " ثم انصرف . أنتظر "
باسم " ليوم الأحد يريد أن يفهم سبب الدرس المفاجئ دون علمه ف " دنيا
" لم تعتد أن تخفي عنه شئ كبير كان أو صغير .
دخل " باسم " قاعة المحاضرات يستأذن "
دنيا " في الخروج لدقائق . سألها :
.. جيتي من غير ماتكلميني كالمعتاد ، و درس غريب من
يومين ؟!! في حاجه مش فاهمها ، محتاج أعرف ايه اللي بيحصل.
.. " باسم !! " ، بابا رفض اننا نرتبط ، و رفض
انك تقابله و قابل " حازم " و وافق عليه و لما توسلت اليه انه يسمعك و
يقابلك رد عليا رد ماعرفتش أقوله ايه .
.. قالك إيه ؟
.. قالي ، " لما يبقى يتشطر و يتخرج يبقى يتقدم
لبنات الناس " ، ماعرفتش أرد عليه ساعتها ، أنا قولتلك قبل كده كتير ، انك
كده بتهدد مستقبلنا ، و أنا في الأول و الآخر بنت ، مش هاقدر أستنى كتير بعد
التخرج لو انت مالحقتش بيا . انت سقطت تلات سنين و الله أعلم هاتخلص ولا لأ .
.. يعني كده خلاص ؟؟ سألها " باسم " و جبينه
يتصبب عرق الخجل .
.. عاوزاك تفهمني و تفهم إني ماحبتش حد غيرك ، لكني في
الآخر مش لاقيه فيك تمسك بيا ، انك تنجح على الأقل علشاني ، انت كنت بتدخل
الامتحانات تهزر و بتراهن ب " الزهر " انك هاتنجح . انت مره قولتلي بالهزار
" تراهني اني هاتقدملك و بابا هايوافق " ، فاكر ؟!! قولتلك " حتى
الزهر هاتخليه يختار مستقبلنا ؟ "
و السكوت يطبق على شفتي " باسم " . ثم أتبعت
كلماتها بسوط من نيران نزل على أذنيه ليكويها ، قائلة " أنا هاتخطب لحازم أول
أسبوع في الأجازة " .
.. يا خسارة !! قالها " باسم " و هو يحاول
جاهداً منع دمعه من السقوط . و لم تعبر " دنيا " بكلمة ، إلا أن دموع
عينيها أبت إلا أن تنعي حباً ظل يكبر طوال سنوات الجامعه .
أنتهت الدراسة و تخرج الأصدقاء كلهم ، ما عدا "
مدمن الزهر " . و جاء يوم الزفاف ليرى حبيبة عمره الناضج بين يدي غيره ، و
علم أنها ستسافر إلى دولة أوروبية بعد أسبوع عسل ، و لم يستطع أن تفارقه دون وداع
. فسأل عن موعد الطائرة ، فاستقل سيارته و اتجه صوب المطار فجرا . اقترب من المطار
و هو ينظر من سيارته للمطار من بعيد ليرى طائرة تنطلق من المطار ، فظن أنها تنطلق
، فأطلق لسيارته السرعة بمنتهاها و هو يصعد كوبري المطار ظن أنه يطير بجوارها ،
صار ينادي باسمها فرحاً أنه يطير بجوارها ، إلا أنه توقف فجأه ، توقف عن كل شئ ،
حتى الحياة . توقف في صندوق سيارة نقل كانت معطلة في مهبط الكوبري .
بعد عشرين عاماً .. في مطعم أسماك في الأسكندرية ، يحاول
جاهداً أن يقوم مستنداً على عصاه إلا أن شنطة يد مذهبة تشتبك في رأس العصا و
صاحبتها تمر ، فيقع مستنداً على أحد المقاعد بجانبه و تسقط الشنطة على الأرض مخرجة
كل مافيها .
.. آسفة جدا مش قصدي . قالتها السيدة صاحبة الشنطة محاولة
إنقاذه من إستكمال السقوط .
و يحاول هو التقاط ما وقع من الشنطه ليساعدها في تجميعها
مره أخرى ، قائلا :
.. أنا اللي آسف اني ماخدتش بالي و هو ينظر إلى الأرض
محاولاً أن يلتقط ما وقع ، فالتقط حافظة النقود ، و محمول ، و مفاتيح و وضعهم في
الشنطة ، ثم تسمر و هو ينظر تحت أحد أرجل المقعد الذي يسنده ليرى " حجر نرد
" !! مد يده و التقط " الزهر " ثم جاهد نفسه و هي تساعده في الوقوف
. و أخيراً تمكن من الوقوف بعد عناء ، أعطاها الشنطة و مد يده بحجر النرد ليضعه في
يدها ، فغاص الزهر في يديها و هي تحتضنه مخافة ضياعه ، ثم نظر في وجهها ، مدققاً ،
مدهوشاً و هو يعطيها حجر النرد قائلاً :
.. مش ممكن ؟!!! و لسه فاكرة " الزهر " ؟؟!!
.. مش ممكن ايه حضرتك ؟!!
.. مش فاكراني ؟!!
.. مش واخده بالي ، ممكن تفكرني .
.. " سمير " .. " سمير عطية " ، مش
فاكراني ؟؟؟!!!!
.. مش معقوووول ، سمير !! إزيك ، عامل إيه ، معلش آسفه
اني ماعرفتكش .
تبسم ، ساخراً من نفسه قائلاً :
.. معلش بقى الكبر باين عليا ، خاصة بعد ما العزيز سقط ،
و أشار على شعره و تخنت و بعد الحادثة اللي حصلت لي دي .
تبسمت قائلة :
.. ألف سلامة عليك ، فعلا انت كنت بتعز شعرك جدا و كنت
مهتم بيه أوي لدرجة .
ثم سكتت لحظة تحاول أن تسأل عنه ، عن " باسم "
، فاستكملت قائلة :
.. فاكر ، مين اللي كان بيقولك " الشعر مالوش عزيز
" .
فارتفع ضحكه لدرجه هيستيريه ، و كأنه رجع بالتاريخ
للكلية ، ثم قال :
.. أيوه طبعا فاكره ، الله يرحمه .
صرخةٌ حادة جدا صدرت منها و هي دافعة كفيها مفتوحين على
فمها و هي تقول :
.. مين ؟!! تقصد مين .
إرتعشت شفتاه شفقة و خوفاً قائلا :
.. آسف والله ، هو انتي ما تعرفيش ؟؟!!
.. حصل إمتى ؟؟
قال :
.. بعد جوازك بأسبوع كان رايح يسلم عليكي و يودعك ، جالي
تيليفون بعدها قالوا انه عمل حادثه عند المطار .
لم تتمالك نفسها من البكاء ، قالت باكية :
.. آسفه ، مضطره أمشي .
و إنطلقت مسرعة و حاول " سمير " أن يصل الى
باب المطعم ليخرج ، و عند باب المطعم :
.. إتفضل حضرتك الأول .
قالها شاب يمسك بيد فتاة جميلة تحتضن بعض الكتب بيدها
اليمنى ، خرج " سمير " و هو ينظر لهما مبتسماً .
.. تقعدي فين ؟!! الشاب يقول للفتاه و هو يدخل في ممر
المطعم .
.. أي مكان ، اللي تحبه .
.. تعالي هنا ، قالها جاذباً كرسي من ظهره لها لتجلس
مبتسماً
.. ميرسي . قالتها بنعومة أسرته و زادت من سنه الضاحك .
بعد حوار غير طويل ، قالت الفتاه للشاب :
.. ناويت تعمل إيه ؟
.. هاتقدم لك أول ما أخلص .
.. بابا مش هايوافق .
تأفف من النفي المطلق ناظراً أسفل شماله ، محاولاً تهدئة
نفسه بعدم الرد و هو عاقد كفيه تحت ذقنه ، قال مغاضباً :
.. أراهنك أنه هايوافق ، قالها و هو يحرك قدمه اليسرى
محاولا صرف حجر صغير من تحت قدمه ، إلا أن لونه إستوقفه ، فمد يده ملتقطه . قال
مدهوشاً :
.. زهر عاج أصلي و الأرقام محفوره بمية الدهب كمان !!
الفرده التانيه فين ؟؟
قام ليبحث أسفل منه ، قام بالتمشيط أسفل المقاعد فوجد
الآخر تحت أبعد المقاعد على اليمين . ضحك قائلا ً
.. ده صاحب الزهر ده شكله كده كان صاحب مزاج و قمرتي
محترف كمان . " جوز ولا فرد "
.. يعني ايه ؟؟؟ سألت في اندهاش ، فهم منها أنها لا تعلم
ماذا يعني بهذا السؤال .
قال :
.. أقولك أنا خلاص ، أنا هارمي الزهر و الرقمين اللي
هايطلعوا لو زوجي يبقى باباكي هايوافق ، و لو طلعوا فردي يبقى مش هايوافق . و ألقى
الزهر .
.. بابا رفض يقابلك يا " باسم " .
لم يلتفت لما قالت و هو ينظر للزهر و هو يدور و يتمتم
" جوز " و يبتسم عن ثقة منه فيما رمى . إلا أن الزهر رضي بغير ذلك .
.. لأ ، قالها صارخا ، صرخة كأن طائرة كونراد هبطت في
صدر المطعم تحطم لها زجاج النوافذ ، و بسرعة فائقة أمسك بمطفأة السجائر و طحن بها
الزهر مع كلمة " لأ " الأولى . و حاول الزهر الآخر الهرب خوفاً من الطحن
. لكن " باسم " تبعه بصرخة أخرى .
.. لأ ، و طحن بها الزهر الآخر . ثم أتبعها الثالثة .
.. لأ ، فتهشمت للثالثة طاولة الطعام .
خرج يجري و هي خلفه ، قفز على سور الكورنيش ناظراً للبحر
و هو يقول :
.. " ماحدش في الدنيا هايمنعك مني و لا هايمنعني
منك ، و هاعمل المستحيل علشان أكون أستاهلك ، بس بشرط ، انك تقولي انك هاتستنيني
!! "
.. هاستناك للأبد و مش هكون لغيرك مهما حصل .
....................................................................
عادل أنسي